يُقدَّم نموذج “المدرسة الرائدة” في المدرسة العمومية باعتباره خيارًا إصلاحيًا يهدف إلى تحسين جودة التعلمات والرفع من مردودية المنظومة التربوية، من خلال توحيد الممارسات البيداغوجية، واعتماد دلائل ودروس جاهزة، وتكثيف التقويمات. غير أن هذا النموذج، رغم ما يحمله من أهداف مُعلنة، يثير تساؤلات عميقة حول أثره الحقيقي على المتعلم، خاصة فيما يتعلق برغبة التعلم والدافعية الداخلية لدى التلاميذ.
من أبرز الإشكالات التي يطرحها نمط التدريس في المدرسة الرائدة، هيمنة التوحيد والجاهزية على حساب المرونة والتكيف مع السياقات الصفية المختلفة. فحين يُفرض على المدرس الالتزام الصارم بدروس معدّة مسبقًا، يتحول الفعل التعليمي إلى ممارسة ميكانيكية، ويغيب التفاعل الحي الذي يُغذّي فضول المتعلم ويُشعل رغبته في الاكتشاف. المتعلم، في هذه الحالة، يصبح متلقيًا سلبيًا، يستهلك المعرفة بدل أن يُنتجها، ويُقيَّم باستمرار دون أن يُمنح مساحة للخطأ والتجريب.
كما أن التركيز المفرط على الإنجاز السريع للمضامين وتحقيق مؤشرات رقمية قد يُفرغ التعلم من معناه، ويحوّله إلى سباق نحو إتمام الدروس، لا نحو بناء الفهم. هذا الضغط الزمني، المصحوب بتقويمات متكررة، يولّد لدى التلاميذ شعورًا بالإنهاك والقلق، ويُضعف ارتباطهم بالمدرسة باعتبارها فضاءً للتعلم الممتع. ومع مرور الوقت، تخبو الدافعية الداخلية، وتتحول الدراسة إلى واجب ثقيل لا إلى رغبة ذاتية. ولا يمكن فصل هذا الأثر عن تهميش دور المدرس الإبداعي. فالمدرس، حين يُختزل في منفذ لدلائل جاهزة، يفقد قدرته على ابتكار وضعيات تعلم محفزة، تراعي اهتمامات المتعلمين وحاجاتهم النفسية والاجتماعية.
في المقابل، يُدرك علم النفس التربوي أن الرغبة في التعلم تنبع من الإحساس بالمعنى، والنجاح، والاعتراف، وهي عناصر لا تتحقق داخل نموذج جامد يُقاس فيه الأداء بالأرقام فقط. ورغم ذلك، لا يمكن إنكار أن المدرسة الرائدة تسعى إلى معالجة اختلالات حقيقية داخل المدرسة العمومية، غير أن نجاحها يظل مشروطًا بمراجعة نمط التدريس المعتمد، وإعادة التوازن بين التنظيم والحرية البيداغوجية. فمدرسة تُخمِد رغبة التعلم، مهما حسنت مؤشرات نتائجها، تظل مدرسة عاجزة عن أداء رسالتها التربوية.
إن إصلاح المدرسة العمومية لا يتحقق عبر نماذج جاهزة فقط، بل عبر إشراك حقيقي لنساء ورجال التعليم، والإنصات لتجاربهم، وجعلهم شركاء في البناء لا مجرد منفذين. فمدرسة رائدة حقًا هي تلك التي تضع المتعلم في القلب، وتمنح المدرس المكانة التي يستحقها بوصفه صانع الأثر والتغيير.


0 التعليقات