النص السماعي بلد الاستقرار pdf

لَمْ يَخْطُرُ بِبَالِنَا، أَنَا وَأَبِي وَأُمِّي وَأُخْتِي الصَّغِيرَةُ، أَنَّنا سَتَجِدُ في هَذَا الْبَلَدِ الْجَمِيلِ : الْمَغْرِبِ، وَطَنَا ثَانِيَا؛ يُضَمِّدُ جِراحَنَا، وَيُواسينا فِي أَحْزَانِنَا، وَنَحْنُ الَّذِينَ عَادَرْنا بَلَدَنا في وَسَطِ إفريقيا، وَوِجْهَتُنَا الْهِجْرَةُ إِلى الدِّيارِ الأوروبية .... كثيرون مِمَّنْ رافقونا في رِحْلَةِ الهِجْرَةِ الشَّاقَةِ، وَمَعَهُمْ صِغَارُهُمْ، كانوا يُصِرُونَ عَلَى الْبَقَاءِ بِالْمَغْرِبِ بِضْعَةَ أَسَابِيعَ فَقَطْ ، ثُمَّ التَّوَجُهِ، بَعْدَ ذَلِكَ، إِلَى الضَّفَّةِ الْأُخْرَى الشَّمَالِيَّةِ مِنَ الْبَحْرِ. غَيْرَ أَنَّنا، حِينَ وَطَأَتُ أَقْدَامُنَا هَذَا الْبَلَدَ الَّذِي اعْتَبَرْنَاهُ فِي الْبِدَايَةِ مُجَرَّدَ بَلَدِ عُبورٍ، وَجَدْنَا تَرْجِيبَاً كَبِيرًا مِنَ الْأَهَالِي وَالْأُمَرِ الْمَغْرِبيَّة.. وَلَمْ تَمُرَّ إِلَّا أَيَّامُ قَلِيلَةٌ، حَتَّى أَحْسَسْتُ بِأَبِي يُغَيْرُ رَأَيْهُ بِخُصوص مُواصَلَةِ طَريقِ هِجْرَتِنَا نَحْوَ أوروبا.. سَمِعْتُهُ، ذَاتَ يَوْمٍ، يَقُولُ لِأُمِّي:

ما رأيكِ إِذا بَقينَا بِالْمَغْرِبِ...؟! كُلُّ شَيْءٍ مُتَاحٌ لَنَا هُنا.. وَقَدْ بَلَغَنِي مِنْ بَعْضِ الْأَصْدِقَاءِ الَّذِينَ سَبَقُونَا إِلَى هَذَا الْبَلَدِ، بِأَنَّ السلطاتِ الْمَغْرِبِيَّةَ بَدَأَتْ تُمَكِّنُ الْمُهَاجِرِينَ الْأَفَارِفَةَ مِنْ بِطَاقاتِ الْإِقَامَةِ، وَحُقوقِ أُخْرَى كَثِيرَةِ...! وَجَدْتُ أُمّي تُقاسِمُ أَبي الرَّأْيَ نَفْسَهُ، وَأَنَا أَيْضاً، وَجَدْتُ فِي الْمَغْرِبِ أَصْدِقَاءَ جُدُداً في مِثْلِ سِنِّي، شَارَكْتُهُمْ حُجُوَةَ الدَّرْسِ... ما زِلتُ أَذْكُرُ ذَلِكَ الصَّباحَ الْأَوَّلَ الذي رافقني فيه والدي إلى الْمَدْرَسَةِ. اسْتَقْبَلَني الأُسْتَاذُ بِابْتِسَامَةٍ عَرِيضَةٍ، وَرَبَّتَ عَلَى كيفي، ثُمَّ أَجْلَسَني في الْمَقْعَدِ الْأَوَّلِ بِجانِبِ لَيْلى)، وَقَالَ لِي بِنَيْرَةٍ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ التَّشْجِيع: ستعلم اللغةَ الْعَرَبِيَّةَ، كَباقي الأطفالِ، وَسَتَجِدُ في هَذِهِ الْمَدْرَسَةِ كَثِيراً مِنَ الْأَصْدِقَاءِ؛ يُحِبُّونَكَ، وَيُشَارِ كونَكَ مُنْعَةً

التعلم...! كَانَتْ سَعَادَتِي كَبِيرَةً، وَأَنَا أَسْمَعُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الطَّيِّبَةَ المُشَجَعَةَ الَّتي سُرْعَانَ ما تَحَوَّلَتْ إِلَى حَقِيقَةِ مَلْمُوسَةِ عَلَى أَرْضِ الواقع؛ حَيْثُ وَجَدْتُ في جَمِيعِ الْأَطْفَالِ المَغارِبَةِ التَّرْحَابَ الْكَبِيرَ؛ فَصِرْتُ وَاحِداً مِنْهُمْ.. وَتَوَاصَلَتِ الْأَعْوامُ، وَتَعَلَّمْتُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ، وَصِرْتُ أَنتَقِلُ، بِتَفَوُّقِ، مِنْ فَضْلِ إِلَى آخَرَا بِفَضْلِ مَا وَجَدْتُهُ مِنْ تَعَاوُنِ مِنْ قِبَلِ أساتذتي وَأصْدِقائي.. وَها أَنَا الْآنَ بِالْقِسْمِ السَّادِسِ... أما أَبِي، فَعَلم اللغةَ الْعَرَبِيَّةَ، وَاتَّخَذَ لِنَفْسِهِ كَانَاً صغيراً في الْمَدِينَةِ يَبيعُ فِيهِ الْمَلَائِسَ التَّقْلِيدِيَّةَ الْإِفْرِيقِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ تَخيطها أُتِي بِالْمَنْزِلِ.. وَهَكَذَا صَارَ لَنَا بَيْتُ وَمُسْتَقَرٌّ، وَأَصْبَحَ المَغْرِبُ بِالنَّسْبَةِ إِلَيْنَا بَلَدَ اسْتِقْرَارِ وَأَمَانِ..

(فريق التأليف)