منهجية تحليل سؤال فلسفي حول طبيعة العقلانية العلمية نموذج تطبيقي


نبذة عَنْ المقال: هل العقل أساس بناء النظرية العلمية ؟ ان المعرفة فاعلية انسانية بامتياز، تحديدا ضمن “النظرية والتجربة” اذ يثير قضية “طبيعة العقلانية العلمية”.. منهجية تحليل سؤال فلسفي مجزوءة المعرفة العقلانية العلمية هل العقل أساس بناء النظرية العلمية ؟ . الامتحان الوطني مادة الفلسفة 2020.

نموذج تحليل وَمُنَاقَشَة سؤال فلسفي مجزوءة المعرفة مفهومالنظرية والتجربة

ان المعرفة فاعلية انسانية بامتياز، فلطالما كَانَ الانسان شغوفا وملما بإبعاد أجوبة لأسئلة حيرته مُنْذُ الأزل وبتفسير الظواهر الطبيعية خاصة. واذا كَانَ فِي البداية لجأ للخرافات والميتوس لإشباع فضوله المعرفي ، فانه ،وَمَعَ ظهور الفلسفة واللوغوس، تَجَاوز تِلْكَ التفاسير اللامنطقية، وَبعْدَ استقلال العلوم عَنْ الفلسفة، أَصْبَحَ العلم يفيض بالنظريات الَّتِي حاولت ان تجيب عَنْ تِلْكَ الاسئلة بِشَكْل منطقي. والسؤال الَّذِي نحن بصدده يندرج ضمن هَذَا المجال، تحديدا ضمن “النظرية والتجربة” اذ يثير قضية “طبيعة العقلانية العلمية” فمن الفلاسفة الابستيمولوجيين من ذهب بالقول بِأَنَّ النظرية تبنى بالتجربة وحدها، فِي حين مِنْهُمْ من يؤكد عَلَى أن أساس بناء النظرية العلمية هُوَ العقل، ومنهم أيضًا من جمع بينهما.

مِنْ خِلَالِ مَا سبق يمكن طرح الاشكال المحوري التَّالِي : هل تبنى النظرية بالتجربة وحدها ام بالعقل وحده أم هُمَا مَعًا؟ ويمكن تجزيئ هَذَا الاشكال لِعِدَّةِ اسئلة جزئية من قبيل مَا النظرية؟ وما التجربة؟ وما العقل؟ كَيْفَ تبنى النظريات العلمية ؟ هل تبنى انطلاقا من المُعْطَيات التجريبية أم تبنى عَلَى العقل والتماسك المنطقي والخيال؟ هل هُنَاكَ احتمالية الجمع بَيْنَ العنصرين مَعًا ؟

أول مَا يستوقفنا هُوَ صيغة السؤال الاستفهامية؛ هل أداة استفهام التصديق، أي أن السؤال يقبل اجابتين متقابلتين :نعم أَوْ لَا ، فان كَانَت الاجابة بنعم نكون أَمَامَ اطروحة مفترضة مفادها أن “العقل أساس بناء النظرية العلمية” وقبل الخوض فِي تحليل معطيات هَذِهِ الاطروحة المفترضة، لَا بُدَّ أَنْ نعرف المفاهيم التالية : “مفهوم العقل، مفهوم النظرية ومفهوم الأساس”، وَتَجْدُرُ الاشارة أَيْضًا لمفهوم التجربة فأما العقل فهو القدرة عَلَى التمييز بَيْنَ الخطأ والصواب ، ويرافق العقل كل مَا هُوَ منطقي مجرد من الواقع، بَيْنَمَا النظرية فَهِيَّ انشاء تأملي بِالنِسْبَةِ لظاهرة معينة كيفما كَانَت كمحاولة تفسيرها وفهم معطياتها، والنظرية العلمية هِيَ النظرية الَّتِي تتميز بالدقة والموضوعية، والنظرية العلمية ، انطلاقا من الأطروحة المفترضة، تبنى بالعقل، فالعقل اذن هُوَ أساس بنائها بِهَذَا يكون الأساس هُوَ المحدد والمصدر الرئيسي هَذَا يدفعنا للتساؤل مَا الَّذِي يجعل من العقل هُوَ أساس بناء النظرية العلمية دون غيره من الأسس الأخرى المحتملة ؟

ان التجربة نوعان : تجربة حسية وَهِيَ التجربة العامية الَّتِي هِيَ تراكم للمعيش اليومي، وَهِيَ تعد عائق استيمولوجي لِکَوْنِهَا تفتقر للموضوعية والدقة وتجربة علمية أَوْ مَا يسمى بالتجريب وَهُوَ كَمَا يطلق عَلَيْهِ الابستيمولوجين، مساءلة منهجية للطبيعة، وَهِيَ عملية اعادة انشاء الظاهرة المدروسة فِي المختبر بغية تفسيرها. لكن رغم كون التجربة العلمية أقرب للموضوعية من التجربة الحسية، فَهِيَّ الأخرى لَا تخلو من الشوائب، فالتجربة العلمية لَا تعطي نتائج موثوقة مِنْهَا مائة بالمائة لِأَنَّ هامش الخطأ يظل واردا وترتفع احتمالية الخطأ فِي حال مَا كنا نتعامل ومعطيات تستوجب الدقة اللامتناهية. هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّ كُلَّ نظرية بنيت انطلاقا من الواقع خاطئة، لكن لوحظ أَنَّهَا تتميز بمحدودية واضحة، نعطي عَلَى سبيل المثال ميكانيك نيوتن. لكن، فِي المقابل، فان العقل المبني عَلَى المنطقي المتماسك، العقل الرياضي المجرد قادر عَلَى تدارك مَا تغفل عَنْهُ التجربة دائما. العقل، وحده، يستطيع بحكم قوته الخارقة أن يبني نظرية علمية متماسكة تفسر الظواهر المدروسة كلها.

التجربة لَا تساوي شيئا أَمَامَ العقل الرياضي الجبار. دفاعا عَنْ هَذِهِ الأطروحة، يلزمنا الرجوع لتفقد تَارِيخ العلم الحافل بالاكتشافات ذات الطابع المجرد من الواقع وَالَّتِي اصبحت الان حقائق معروفة. تعطي عَلَى سبيل المثال، ديموقريطس ، أحد الفلاسفة الطبيعيين الاوائل، وَالَّذِي بمحض قوته العقلية فطن إِلَى حقيقة أن “كل شيء من ذرات” وهذا القول لَمْ يتم اتباته إلَّا بعد مرور 2000 سنة، وديموقريطس ليس سوى مثال واحد مِنْ عَدَدِ لَا يحصى من الأمثلة الَّتِي تبرهن عَلَى أن العقل فِي استطاعته بناء النظرية العلمية. بالإِضَافَةِ لروني طوم، الرياضي الشهير صاحب نظرية الكوارث فِي نظرية الألعاب، ويقول روني طوم « إن التجريب وحده عاجز عَنْ اكتشاف سبب أَوْ أسباب ظاهرة مَا، فَفِي جميع الأحوال ينبغي إكمال الواقعي بالخيالي» مبينا بِهَذَا حدود التجربة وعجزها عَنْ اعطاء نتائج قطعية، حتمية ونهائية، بَيْنَمَا العقل قادر عَنْ استدراك مواطن ضعف التجربة، بَلْ أكثر من ذَلِكَ، قادر عَنْ تعويضها. خاصة وأننا بلغنا من العلم مَا يتعذر عَنْ افضاعه للواقع التجريبي (الميكانيك الكمية).

وعليه فان العقل والخيال والمنطق … وغيرها من المحددات المجردة قادرة عَلَى بناء النظرية العلمية المتماسكة عكس التجربة الَّتِي، فِي أغلب الأحيان، تقف عاجزة عَنْ ذَلِكَ. لكن إِلَى أي حد يمكن الاكتفاء بِهَذَا الطرح ؟ أليس هُنَاكَ من يرى غيره؟ ان الأطروحة المفترضة فِي السؤال سلطت الاضواء عَلَى العقل والمنطق بَعْدَمَا كَانَ أغلب التجريبيون يقللون من قيمتهما او يعتبرونهما عنصران ثانويان. وهذه الاطروحة تبين قبول معظم الفلاسفة الاسبتيمولوجيين العقلانيين، وَفِي مقدمتهم نجد “ألبرت أينشتاين” الفيلسوف الالماني الشهير، صاحب النسبة العامة والخاصة وأحد أبرز الأدمغة فِي تَارِيخ العلم. فأينشتاين يؤكد عَلَى ان العقل قادر عَلَى بناء النظرية العلمية.

وَقَد بدأ أينشتاين بتوضيح أنا لَا وجود لنظرية علمية تتميز بموضوعية مطلقة، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تدخل نوع من ذاتية العالم. وَأَضَافَ أن النظريات العلمية المؤسسة للعلم المعاصر حافلة بمفاهيم وكيانات هِيَ ابداعات حرة للعقل البشري. وَهُوَ ليس من اللَّذِينَ ينكرون فضل التجربة فِي مجموعة من الاكتشافات والاختراعات التورية، لكنه أَشَارَ إِلَى أَنَّ التجربة لَمْ تعد تلبي الحاجات والمطالب العلمية، لكوننا بلغنا درجة من العلم لَا تسمح بنا، خاصة عِنْدَ دراسة أبعاد ومفاهيم ومبادئ مجردة ودقيقة كالإلكترون. لذا فان أينشتاين يؤمن بان العقل أَصْبَحَ هُوَ الَّذِي يحتل مرتبة الأساس فِي عملية البناء المعرفي، وَقَد نزعتها من التجربة بجدارة واستحقاق، الَّتِي لَمْ تصبح إلَّا مصدر الهام.

ويقول أينشتاين« ان العقل وحده قادر عَلَى فهم الواقع وهذا مَا كَانَ يحلم بِهِ القدامى » وبالقدامى يقصد الفلاسفة الأوائل أمثال ديمقريطس. ويدافع أينشتاين عما يسميه بالعقل العلمي الأكسيومي او العقل الفرضي الاستنباطي. والاكسيوما هِيَ البديهيات او المسلمات الَّتِي ينطلق مِنْهَا البرهان، مثال، كل الزوايا القائمة متشابهة أَوْ من نقطة يمر مَا لَا نهاية من المستقيمات، وَهِيَ تمثل مقدمات للبرهان الرياضي.

لكن التجريبيين، رغم ذَلِكَ، مازالوا متعلقين تعلقا شديدا بالتجربة، ويرفضون الامتثال لطرح العقلانيين. وَمِنْ أهَمُ هَؤُلَاءِ التجريبيين اللَّذِينَ يتشبتون بالتجربة ويعتبرها أساس بناء النظرية العلمية. نجد هانز راينشباخوَالَّذِي ينتقد العقلانيين انتقادا لادعا، بِالنِسْبَةِ لهانز راينشباخ، المعرفة العلمية تتميز بالمعقولية لَا العقلانية ، اذ ان صفة العقلانية تطلق عَلَى المذهب الفلسفي لَا عَلَى المعرفة. فهو يرى بان العقل العلمي المعرفي هُوَ المطبق عَلَى المادة التجريبية والملاحظة العلمية. فالعقل اذن ليس إلَّا نابعا للتجربة وَالَّتِي تحتل المرتبة السامية. والعقل، حَسَبَ راينشباخ، لَا يملك أية قوة خارقة كَمَا يدعيه التجريبيون، اذ ان المعرفة العلمية تستمد معقوليتها من المادة التجريبية والواقع والملاحظة بِالدَّرَجَةِ الأُوْلَى.

ويؤكد هانز راينشباخ عَلَى أن النزعة العقلانية أقرب إِلَى الصوفية من العلم، فكل منهما يَعْتَمِدُ عَلَى معطيات حدسية فَوْقَ حسية ومجردة من الواقع تماما. وهذا مرفوض من هُنَا ، فان راينشباخ بحث عَلَى التجربة كأساس لبناء النظرية العلمية الحقة. غير ان التصور المتطرف الَّذِي يدافع عَنْهُ كل من العقلانيين والتجريبيين يحدد المعرفة العلمية كأحادية البعد اما باعتبار العقل وحده كأساس أَوْ التجربة وحدها كذلك فغاستون باشلار من أولئك اللَّذِينَ قدمو خيارا وسيطا، فلما لَا نجمع بَيْنَ كل من العقل والتجربة ؟ إلَّا يوفر ذَلِكَ دقة أكثر لنظرياتنا؟ المعرفة العلمية لَا تمشي عَلَى قدم واحدة، لَا بد ، اذن من الجمع بَيْنَ العقل والخيال والمنطق من جهة، وَكَذَا التجربة والواقع من جهة أُخْرَى والا ستكون المعرفة العلمية عرجاء.

ويقول غاستون باشلار فِي هَذَا الصدد« لَا وجود لعقلانية فارغة كَمَا لَا توجد اختبارية عمياء »وهذا القول استمده باشلار من الفيلسوف الألماني الشهير، رائد التيار التوفيقي ايمانويل كانط، اذ يقول كانط فِي نفس السياق،« ان المقولات العقلية بِدُونِ حدوس حسية جوفاء، والحدوس الحسية بِدُونِ مقولات عقلية عمياء ». نستنتج من عمليتي التحليل والمناقشة ان قضية العقلانية العلمية او كيفية بناء النظريات العلمية اكتسبت طابعا اشكاليا، لكون الفلاسفة لَمْ يتفقوا عَلَى اتجاه واحد، فالعقلانيون يعتبرون العقل كأساس لبناء المعرفة العلمية، بَيْنَمَا التجربيون يولون وجههم شطر التجربة، بَيْنَمَا رواد التيار التوفيقي النقدي يجمعون بينهما مَعًا لتشكيل المعرفة العلمية. وَفِي رأيي، هَذَا النقاش حول كيفية بناء النظريات العلمية يحل بالفصل بَيْنَ النظريات الرياضية والنظريات الفيزيائية. فالاولى تتميز بالتجريد من الواقع، خاصة فِي عملية البناء. فقد يستلهم علماء الرياضيات نظرية مَا من الواقع، لكن بنائها الفعلي يتم بالرجوع للبرهان الرياضي اي العقل الرياضي .

وَتَجْدُرُ الاشارة إِلَى أَنَّهُ فِي أغلب الأحيان، علماء الرياضيات هم من يخلقون لأنفسهم مشاكل سيتمتعون بحلها ويتحضرن بعضهم البعض بِذَلِكَ، نعطي مثالا بأحد أشهر المعضلات الرياضية مَا يسمى بفرضية ريمان وَالَّتِي ليومنا هَذَا مَا زَالَتْ غامضة. بَيْنَمَا النظريات الفيزيائية هدفها هُوَ تفسير الطبيعة وتحدي قوانينها، لذا فمن الطبيعي أن تلجأ للتجربة فِي عملية البناء. فالتجربة، يقول كوفييه « إن الملاحظ يصغي إِلَى الطبيعة، أَمَّا المجرب فيسألها ويرغمها عَلَى الجواب » بِهَذَا المعنى هِيَ مساءلة منهجية للطبيعة والواقع والعالم المجيط بنا وَكَذَا عالمنا الداخلي فَفِي اعتقادي، كل نظرية يتم التَّوَصُّل إِلَيْهَا بالطريقة الَّتِي تناسب محتواها وَالَّتِي تتماشى مَعَ الميدان الَّتِي تنتمي إِلَيْهِ. فليس كل انجاز علمي ثُمَّ التَّوَصُّل إِلَيْهِ بنفس الطريقة لكن تجدر الاشارة إِلَى ان هَذِهِ الانجازات العلمية ليست اجابات نهائية عَنْ الاسئلة الَّتِي مَا زَالَتْ تحير البشرية، فَهِيَّ تتميز بِالنِسْبَةِ. ويقول باشلار ” تَارِيخ العلم هُوَ تَارِيخ تصحيح الاخطاء” فالخطأ فِي جميع الأحوال يظل واردا بفضل النظر عما ان كنا فانطلقنا من التجربة او باعتماد العقل او غيرهما. وعليه فان الاشكال الَّذِي نطرحه الان هُوَ كَيْفَ نتحقق من النظريات العلمية ؟ مَا النظريات الَّتِي تعد مقبولة ؟ او مَا معيار التحقق مِنْهَا ؟

مواضيع ذات صلة
الثانية باكالوريا

أنشر الموضوع مع أصدقائك

التعليقات
0 التعليقات

Aucun commentaire: